فصل: (سورة الأحقاف: آية 8).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

.[سورة الأحقاف: الآيات 1- 3].

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)}.
{إِلَّا بِالْحَقِّ} إلا خلقا ملتبسا بالحكمة والغرض الصحيح {وَ} بتقدير {أَجَلٍ مُسَمًّى} ينتهى إليه وهو يوم القيامة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا} من هول ذلك اليوم الذي لابد لكل خلق من انتهائه إليه {مُعْرِضُونَ} لا يؤمنون به ولا يهتمون بالاستعداد له. ويجوز أن تكون ما مصدرية. أي: عن إنذارهم ذلك اليوم.

.[سورة الأحقاف: آية 4].

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أو أثارة مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)}.
{بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ} هذا أي من قبل هذا الكتاب وهو القرآن. يعنى: أنّ هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك. وما من كتاب أنزل من قبله من كتب اللّه إلا وهو ناطق بمثل ذلك. فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير اللّه {أو أثارة مِنْ عِلْمٍ} أوبقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين. من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم. أي: على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب. وقرئ: {أثرة}. أي: من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم. وقرئ: {أثرة} بالحركات الثلاث في الهمزة مع سكون الثاء. فالإثرة بالكسر بمعنى الأثرة. وأما الأثرة فالمرّة من مصدر: أثر الحديث إذا رواه. وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر. كالخطبة: اسم ما يخطب به.

.[سورة الأحقاف: آية 5].

{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5)}.
{وَمَنْ أَضَلُّ} معنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالا من عبدة الأصنام. حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كلّ بغية ومرام. ويدعون من دونه جمادا لا يستجيب لهم ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة. وإذا قامت القيامة و{حشر الناس}: {كانوا لهم أعداء}. و{كانوا عليهم ضدا}. فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرّة. لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة. وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم. وإنما قيل مَنْ وهُمْ لأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولى العلم من الاستجابة والغفلة. ولأنهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلا وغباوة. ويجوز أن يريد: كلّ معبود من دون اللّه من الجن والإنس والأوثان. فغلب غير الأوثان عليها. وقرئ: {ما لا يستجيب}. وقرئ: {يدعو غير اللّه من لا يستجيب}. ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة طريقه طريق التهكم بها وبعبدتها. ونحوه قوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ولوسَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}.

.[سورة الأحقاف: الآيات 6- 7].

{وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتنا بَيِّناتٍ قال الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}.
{بَيِّناتٍ} جمع بينة: وهي الحجة والشاهد. أو واضحات مبينات. واللام في {لِلْحَقِّ} مثلها في قوله وَقال: {الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمنوا لَوكانَ خَيْرًا} أي لأجل الحق ولاجل الذين آمنوا. والمراد بالحق: الآيات. وبالذين كفروا: المتلو عليهم. فوضع الظاهران موضع الضميرين. للتسجيل عليهم بالكفر. و للمتلو بالحق {لَمَّا جاءَهُمْ} أي: بادوه بالجحود ساعة أتاهم. وأول ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر. ومن عنادهم وظلمهم: أنهم سموه سحرا مبينا ظاهرا أمره في البطلان لا شبهة فيه.

.[سورة الأحقاف: آية 8].

{أَمْ يَقولونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هو أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وهو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)}.
{أَمْ يَقولونَ افْتَراهُ} إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا إلى ذكر قولهم: إن محمدا افتراه. ومعنى الهمزة في {أم}: الأنكار والتعجيب. كأنه قيل: دع هذا واسمع قولهم المستنكر المقضى منه العجب. وذلك أن محمدا كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على اللّه. ولوقدر عليه دون أمّة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة. وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من اللّه له. والحكيم لا يصدّق الكاذب فلا يكون مفتريا. والضمير للحق. والمراد به الآيات {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} على سبيل الفرض عاجلني اللّه تعالى لا محالة بعقوبة الافتراء عليه.
فلا تقدرون على كفه عن معاجلتى ولا تطيقون دفع شيء من عقابه عنى. فكيف أفتريه وأتعرّض لعقابه.
يقال: فلان لا يملك إذا غضب. ولا يملك عنانه إذا صمم. ومثله {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}. {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} ومنه قوله عليه السلام «لا أملك لكم من اللّه شيئا» ثم قال: {هو أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تندفعون فيه من القدح في وحى اللّه تعالى. والطعن في آياته. وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى {كَفى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يشهد لي بالصدق والبلاغ. ويشهد عليكم بالكذب والجحود. ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم {وهو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} موعدة بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر وتابوا وآمنوا. وإشعار بحلم اللّه عنهم مع عظم ما ارتكبوا. فإن قلت: فما معنى إسناد الفعل إليهم في قوله تعالى: {فلا تملكون لي}؟ قلت: كان فيما أتاهم به النصيحة لهم والإشفاق عليهم من سوء العاقبة وإرادة الخير بهم. فكأنه قال لهم: إن افتريته وأنا أريد بذلك التنصح لكم وصدكم عن عبادة الالهة إلى عبادة اللّه. فما تغنون عنى أيها المنصوحون إن أخذنى اللّه بعقوبة الافتراء عليه.

.[سورة الأحقاف: آية 9].

{قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}.
البدع. بمعنى: البديع. كالخف بمعنى الخفيف. وقرئ: {بدعا}. بفتح الدال. أي: ذا بدع ويجوز أن يكون صفة على فعل. كقولهم: دين قيم. و لحم زيم: كانوا يقترحون عليه الآيات ويسألونه عما لم يوح به إليه من الغيوب. فقيل له: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} فاتيكم بكل ما تقترحونه. وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيبات. فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلا بما اتاهم اللّه من آياته. ولا يخبرون إلا بما أوحى إليهم. ولقد أجاب موسى صلوات اللّه عليه عن قول فرعون: {فما بال القرون الأولى}؟ بقوله: {علمها عند ربى} {وَما أَدْرِي} لأنه لا علم لي بالغيب- ما يفعل اللّه بى وبكم فيما يستقبل من الزمان من أفعاله. ويقذر لي و لكم من قضاياه {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ} وعن الحسن: وما أدرى ما يصير إليه أمرى وأمركم في الدنيا. ومن الغالب منا والمغلوب. وعن الكلبي: قال له أصحابه- وقد ضجروا من أذى المشركين-: حتى متى نكون على هذا؟ فقال: ما أدرى ما يفعل بى ولا بكم. أأترك بمكة أم أو مر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها- يعنى في منامه- ذات نخيل وشجر؟ وعن ابن عباس: ما يفعل بى ولا بكم في الآخرة. وقال: هي منسوخة بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} ويجوز أن يكون نفيا للدراية المفصلة. وقرئ: {ما يفعل}. بفتح الياء. أي: يفعل اللّه عز وجل. فإن قلت: إنّ يُفْعَلُ مثبت غير منفي. فكان وجه الكلام: ما يفعل بى وبكم. قلت: أجل. ولكن النفي في ما أدرى لما كان مشتملا عليه لتناوله ما وما في حيزه: صح ذلك وحسن.
ألا ترى إلى قوله: {أَولم يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ولم يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ} كيف دخلت الياء في حيز أنّ وذلك لتناول النفي إياها مع ما في حيزها. و{ما} في {ما يُفْعَلُ} يجوز أن تكون موصولة منصوبة. وأن تكون استفهامية مرفوعة. وقرئ: {يوحى}. أي اللّه عز وجل.

.[سورة الأحقاف: آية 10].

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فآمن وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)}.
جواب الشرط محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند اللّه وكفرتم به ألستم ظالمين.
ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} والشاهد من بنى إسرائيل: عبد اللّه بن سلام. لما قدم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة نظر إلى وجهه. فعلم أنه ليس بوجه كذاب. وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر وقال له: إنى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبىّ: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو الى أمّه؟ فقال عليه الصلاة والسلام. أمّا أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب. وأمّا أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه. وإن سبق ماء المرأة نزعته. فقال: أشهد أنك رسول اللّه حقا. ثم قال: يا رسول اللّه. إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامى قبل أن تسألهم عنى بهتوني عندك. فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «أي رجل عبد اللّه فيكم؟» فقالوا: خيرنا وابن خيرنا. وسيدنا وابن سيدنا. وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: «أرأيتم إن أسلم عبد اللّه؟» قالوا: أعاذه اللّه من ذلك. فخرج إليهم عبد اللّه فقال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أنّ محمدا رسول اللّه. فقالوا: شرنا وابن شرنا وانتقصوه. قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول اللّه وأحذر. قال سعد بن أبى وقاص ما سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشى على وجه الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد اللّه بن سلام. وفيه نزل {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ} الضمير للقرآن. أي: على مثله في المعنى. وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعانى القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك. ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين}. {إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الأولى}. {كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} ويجوز أن يكون المعنى: إن كان من عند اللّه وكفرتم به وشهد شاهد على نحوذلك. يعنى كونه من عند اللّه. فإن قلت: أخبرنى عن نظم هذا الكلام لأقف على معناه من جهة النظم. قلت: الواو الأولى عاطفة لكفرتم على فعل الشرط. كما عطفته ثُمَّ في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} وكذلك الواو الآخرة عاطفة لاستكبرتم على شهد شاهد. وأما الواو في {وَشَهِدَ شاهِدٌ} فقد عطفت جملة قوله. {شهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم}: على جملة قوله: {كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} ونظيره قولك: إن أحسنت إليك وأسأت. وأقبلت عليك وأعرضت عنى. لم نتفق في أنك أخذت ضميمتين فعطفتهما على مثليهما. والمعنى: قل أخبرونى إن اجتمع كون القرآن من عند اللّه مع كفركم به. واجتمع شهادة أعلم بنى إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به. مع استكباركم عنه وعن الآيمان به. ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ وقد جعل الآيمان في قوله: {فآمن} مسببا عن الشهادة على مثله. لأنه لما علم أنّ مثله أنزل على موسى صلوات اللّه عليه. وأنه من جنس الوحى وليس من كلام البشر. وأنصف من نفسه فشهد عليه واعترف كان الآيمان نتيجة ذلك.

.[سورة الأحقاف: الآيات 11- 14].

{وَقال الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمنوا لَوكانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقولونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِمامًا وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِسانًا عربيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)}.
{لِلَّذِينَ آمنوا} لأجلهم وهو كلام كفار مكة. قالوا: عامّة من يتبع محمدا السقاط. يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود. فلوكان ما جاء به خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء. وقيل: لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار: قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع: لوكان خيرا ما سبقنا إليه رعاء البهم. وقيل: إن أمة لعمر أسلمت. فكان عمر يضر بها حتى يفتر ثم يقول لولا أنى فترت لزدتك ضربا. وكان كفار قريش يقولون: لوكان ما يدعوإليه محمد حقا ما سبقتنا إليه فلانة. وقيل: كان اليهود يقولونه عند إسلام عبد اللّه بن سلام وأصحابه. فإن قلت: لابد من عامل في الظرف في قوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} ومن متعلق لقوله: {فَسَيَقولونَ} وغير مستقيم أن يكون {فَسَيَقولونَ} هو العامل في الظرف. لتدافع دلالتى المضي والاستقبال. فما وجه هذا الكلام؟ قلت: العامل في إذ محذوف. لدلالة الكلام عليه. كما حذف من قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} وقولهم: حينئذ الأن. وتقديره: وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم. فسيقولون هذا إفك قديم. فهذا المضمر صحّ به الكلام. حيث انتصب به الظرف وكان قوله: {فَسَيَقولونَ} مسببا عنه كما صحّ بإضمار أنّ قوله: {حَتَّى يَقول الرسول} لمصادفة {حَتَّى} مجرورها. والمضارع ناصبه.
وقولهم {إِفْكٌ قَدِيمٌ} كقولهم: {أساطير الأولين} {كِتابُ مُوسى} مبتدأ و{من قبله} ظرف واقع خبرا مقدما عليه. وهو ناصب {إِمامًا} على الحال. كقولك: في الدار زيد قائما.
وقرئ: {ومن قبله كتاب موسى}. على: وآتينا الذين قبله التوراة. ومعنى {إِمامًا}: قدوة يؤتم به في دين اللّه وشرائعه. كما يؤتم بالإمام {وَرَحْمَةً} لمن امن به وعمل بما فيه {وَهذا} القرآن {كِتابٌ مُصَدِّقٌ} لكتاب موسى. أولما بين يديه وتقدّمه من جميع الكتب. وقرئ: {مصدق لما بين} يديه. و {لسانًا عربيًّا} حال من ضمير الكتاب في {مصدق}. والعامل فيه {مُصَدِّقٌ} ويجوز أن ينتصب حالا عن كتاب لتخصصه بالصفة. ويعمل فيه معنى الإشارة. وجوّز أن يكون مفعولا لمصدق. أي: يصدق ذا لسان عربى وهو الرسول. وقرئ: {لينذر} بالياء والتاء. و{لينذر}: من نذر ينذر إذا حذر {وَبُشْرى} في محل النصب معطوف على محل {لينذر}. لأنه مفعول له.

.[سورة الأحقاف: الآيات 15- 16].

{ووصَّيْنَا الإنسان بِوالِدَيْهِ إِحْسانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ووضعتهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قال رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)}.
قرئ: {حسنا}. بضم الحاء وسكون السين. وبضمهما. وبفتحهما. و{إحسانا}. و{كرها}. بالفتح والضم. وهما لغتان في معنى المشقة. كالفقر والفقر. وانتصابه على الحال: أي: ذات كره.
أو على أنه صفة للمصدر. أي: حملا ذا كره {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ} ومدّة حمله وفصاله {ثَلاثُونَ شَهْرًا} وهذا دليل على أن أقل الحمل ستة أشهر. لأن مدّة الرضاع إذا كانت حولين لقوله عز وجل: {حوليْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ} بقيت للحمل ستة أشهر. وقرئ: {وفصله}.
والفصل والفصال: كالفطم والفطام. بناء ومعنى. فإن قلت: المراد بيان مدّة الرضاع لا الفطام. فكيف عبر عنه بالفصال؟ قلت: لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه لأنه ينتهى به ويتم:
سمى فصالا. كما سمى المدّة بالأمد من قال:
كل حى مستكمل مدّة العمر ** ومود إذا انتهى أمده

وفيه فائدة وهي الدلالة على الرضاع التام المنتهى بالفصال ووقته. وقرئ: {حتى إذا استوى وبلغ أشدّه}. وبلوغ الأشد: أن يكتهل ويستوفى السنّ التي تستحكم فيها قوّته وعقله وتمييزه. وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين. وعن قتادة: ثلاث وثلاثون سنة. ووجهه أن يكون ذلك أول الأشد. وغايته الأربعين. وقيل: لم يبعث نبىّ قط إلا بعد أربعين سنة.